" هوية جازان " ، المشاكل والتصورات الخاطئة
إحياء "الهوية الجازانية"، المشاكل والتصورات الخاطئة.
إن جازانَ قِدرُ صهرٍ اجتمع فيه بشرٌ من جميع
الأجناس والأطياف وشكلت تمازجا له نوع من الصفة الظاهرة، وهذه سمة حضارية في أي
مجتمع تحضَّرَ مع مرور الزمن، وهي عجلة تدور بشكل مستمر لا يمكن أن يوقفها بَشر.
لذلك؛ فنظرياً وتطبيقياً لا توجد هوية جازانية
قائمة بذاتها؛ للمقدمة السابقة، وإنما توجد هوية تهامية وهي الأخرى في طريقها
للانحسار، ويمكن الثقول أن جوهر هذه الهوية التهامية باقٍ عند القبائل البدوية في
تهامة كالمسارحة وبني شبيل والحرث وبني مروان، والزرانيق في أقصى الجنوب التهامي
وغيرهم من القبائل العديدة على امتداد هذه الأقاليم، أو عند القبائل القروية
المنشترة في الأرياف والقرى والجزر داخل الإقليم الإداري لمنطقة جازان، وينزف أهل
المدن من هذا الجوهر بقدر ما يتواجد العنصر البدوي/الريفي في هذه المدينة فيسهم
بدوره في قِدرِ الصهر على استمرار الحضارة وإنتاجاتها .
وأسباب السمات الحضارية التي تمر بأطوار شتى في
تهامة، أسباب قديمة جغرافية وديموغرافية والثانية معطوفة السببية على الأولى .
إن بقعة إقليم تهامة الجغرافية المفتوحة على
البحر الأحمر والتجارة البحرية المغرية للتجار من شتى الأعراق بالاستثمار وطلب
الرزق، وتربة أوديته الخصبة المغرية للتجمعات القبلية بالنجوع، وبيئة حواضر تهامة
العلمية من -جنوبها حتى شمالها- المغرية لطلبة العلم بالسكنى والاستقرار فيها.
كل ذلك منذ أزله ساهم في تشكيل المكون التهامي
الحضري كأي تجمع حضري في العالم، مع بقاء الجوهر المكنون للهوية التهامية الأصلية
الموجود في البوادي يمد الحواضر بسمات عامة تعطيها الصبغة التهامية.
كل هذه وغيرها من الأسباب التي لم نذكرها
إيثاراً للاختصار، تعد السمة الحضارية للهوية التهامية القائمة بذاتها والتي تعد
هوية جازان فرعاً عنها لا أصلا.
لكن هذه السمات الحضارية المذكورة آنفاً، قد تم
استخدامها بصورة خاطئة انعكست سلباً على أبناء منطقة جازان بشكل خاص، أو إقليم
تهامة بعمومه.
في الحقيقة وكلنا يعلم أن هناك مشكلة ظاهرة
فيما يخص هذا الأمر، وصورة نمطية خاطئة وضيقة الأفق منعكسة عن هذا الإقليم، ستأتي
معنا بعض الأسباب والتي أعطت انعكاساً خاطئاً بالبتة عن الصورة الحقيقة المستقلة
بذاتها لإقليم تهامة بفروعه.
لنحرر أولاً هذا التصور وتصديقاته في الواقع
والمجتمع، وماهي الأسباب التي أدت إلى ذلك ومن قد يكون وراءها بقصد أو غير قصد؟
فنقول:
إن الصورة المنعكسة الآن هي الصورة المشوهة –
وبعيدا عن أي مثاليات وطوباويات-؛ ولنبدأها بترتيب عقلي-منطقي ونقسمها؛ ستكون
البداية من التسمية العامة لهذا الإقليم، والذي كان قديماً يتسمى في بواديه
بالقبيلة الساكنة في هذا الإطار المحدد والذي تحدد بالحروب والتوسعات والهجرات، أو
في حواضره: بالمدينة المركزية بها، أو بالإمارة القائمة فيها وأعتقد أن هذه التسميات
منذ القدم لها ظروفها السياسية والتي تتوسع وتتقلص بحسب ذلك.
إذن: نحن أمام أمر واقع لابد عنه، وهي تسمية
هذا الإقليم الإداري بـ"جازان" نسبةً للمحافظة القائم فيها مركز الإمارة،
مع تأكيدنا -باختصار- على أن هذه التسمية حادثة وليست بأصيلة.
لكن هذه التسمية كما قلنا إنها كغيرها من
سابقاتها تسميات ترتيبية إدارية سياسية، إلا أنها حُمِّلت فوق ما تحتمله بزيادة
وغلو وابتذال، وليست كسابقاتها مجرد تسمية إقليمية مستقلة مالها من تأثير في
متعلقاتها؛ بل إنك تجد أنها أصحبت هي أصل التسمية! وأضحت مسمى للمواطنين الساكنين
فيها بمسماها فالفرد منهم يطلق عليه "جازاني"! دون اعتبار لقبيلته أو
أسرته المنتسب إليها، أو حتى محافظته الأصلية التي ينحدر منها، فأصبحت هذه التسمية
مشاعاً في حق أو باطل.
ولنكن واقعيين، وسنجد تعدي هذا المصطلح قد يكون
محرجاً للكثير أو مؤذياً لهم في اعتبارهم هم أو في اعتبار موضوعي نراه ويرونه
ويراه الآخرون.
ولعلنا أصبحنا نشاهد كثيراً التحرج من هذه
الكلمة-وسنأتي إن شاء الله لأسباب هذا التحرج- ومحاولة استبدالها بكلمات أخرى
كالمخلاف أو غيره، وهذا أمر ظاهر ومستمر بالتوسع شيئاً فشيئاً، فضلاً عن الحق
المشروع (والذي نهض متأخراً) من أن ينسب الشخص نفسه لقبيلته أو أسرته بدلاً من أن
يقول "فلان الجازاني" وذلك الحق مشروعٌ مُسلّمٌ به.
إن من الأسباب التي أدت إلى التحرج –وهي ذاتها
الأسباب التي أعطت الانعكاس الخاطئ الذي أوضحناه بالأعلى-: الصورة النمطية عن الفرد
الجازاني –(كما هي دون الإقرار بها، والتعليق سيردفها)، من أنه شخصٌ همجي، مؤذي،
يطال أذاه جيرانَه ومن في حكمهم، لا تجده يردعه عرفٌ ولا أخلاق، ولا نظام حتى؛
لأنه سيتحايل عليه إن كان ضده بطريقة أو بأخرى، وليس له أصول ولا أحساب! ولا تعجب
أيها القارئ العارف لحقيقة ابن المنطقة الأصيل الذي يخالف هذه الادعاءات النمطية
حقيقة المخالفة، ويتحلى بأجمل الأخلاق وأحسنها.
لكنك في الواقع ستجد هذه المؤثرات كلها تجعل
الشخص "الجازاني" –مع عدم تسليمنا أو إقرارنا بصحة اللفظة وإنما جدَلاً
ومجازاً- يعاني من عنصرية ضده، فلا تجد من يرغب أن يجاوره في سكنٍ، أو أن يقبل أن
يؤجر منه منزله، أو حتى من يقبل أن يشاركه في مهمة عملية أو دنيوية ما إلا إن كان
مُجبَراً على مضض، وهذا من ناحية الأفراد الواقعون تحت تأثير هذا التصور من أبناء
الأقاليم الأخرى الذين يحتكون بأبناء المنطقة.
وأعتقد أن كل قارئ لهذه السطور من أبناء
المنطقة الكريمة العريقة قد مر به أو سمع في أقل تقدير بعضاً من صور العنصرية
الموجهة ضد أبناء المنطقة.
أما من ناحية المتسببين القاصدين أو الخاطئين
من أبناء المنطقة فهذا يعود إلى الخطاب "الجازاني" العام من الخاصة
والعامة.
فالخاصة في مجالاتهم أعطوا انعكاساً مثالياً يظلم
بعض أبناء هذا الإقليم ويعزلهم ويحجّم دورهم، هذا الانعكاس هو للخطاب الذي يجعل من
جازان "جازان الفل" ، "جازان الرخاء" جازان المسكنة والوداعة
والأخيرتان هي التمثل الحقيقي مع الأسف للمصطلحات الفضفاضة والتي قد تبدو جميلة في
موضوعها لكنها مجحفة في تطبيقها على الأفراد الواقعون تحت كلية الإقليم المعنوية.
فأبناء القبائل البدوية والريفية هم أهل سيف
وسنان، وأهل فصاحة وبيان، ونجدة وعدة، وأهل فطرة بدوية بغير تكلف.
وأبناء الحواضر هم أهل علم وتجارة وشجاعة وخبرة
وسياسة في الحياة.
ولكن الصورة المعنوية المجحفة أقصت ذلك كله
وصورت جانباً يسيراً، وجزءاً صغيراً لا ينطبق انطباقاً ذا بالٍ على الصورة الحقيقة
لأبناء الإقليم حاضرة وبادية؛ فأصبح ابن المنطقة في الأدبيات: ذلك الرجل المرهف
الإحساس العاشق الولهان الوديع المسكين الذي لا يجد قوت يومه طيلة عمره !.
كان
ذلك أمراً أجحف السواد الأعظم وأقصاه، وصنع صورة مشوهة أشبه بالمسخ الناقص من الثقافتين
الحضرية والبدوية وكأنه أخذ أسوأ الجوانب منها وقدمها على أنها هي الصبغة الحقيقية
!.
وأما من العامة المتسببين بهذه التعميمات
الخاطئة: من أشربوا هذه التصورات وتنكروا لماضيهم وانصهروا في القدر الخاطئ الذي
لا ينبغي أن يتواجدوا فيه كورثة لأولئك الأجداد العظام الأقوياء، حتى أن البعض
منهم لا يستطيع إدراك أبعد من هذه الصورة الضعيفة الهزيلة، فينعكس ذلك على مجريات
حياته، ويساهم أيضاً في تغييب الوعي الذي يجب أن يكون ظاهراً ومعززاً للانتماء.
ثم بعد هذه المقدمات التي كانت محركات رئيسية
لمن يعمل في مشروع "هوية جازان" ونحوها، سنستعرض الحلول التي قام بها العاملون
في تلك المشاريع، نقداً واستعراضاً للإيجابيات والسلبيات الموجودة بها.
فمن أولئك: فريقٌ يريد إظهار المنطقة وأبنائها
بالصورة العصرية الحضارية، وأنهم نبغوا في مجالٍ ما، وبرزوا في جانبٍ ما، وخدموا
الجميع وأثروا بعلمهم وعملهم، وهؤلاء وإن كان فعلهم حسن بشكل عام، إلا أنهم كمثل
المتنكب للماضي، الفاصل له عن الحاضر، وهم بشكل أو بآخر كأنهم قد سلموا لتلك التنميطات
الغالبة، والتي أصبحت السمة الرئيسية، فكأنهم أتباع متأثرون بغيرهم ممن فرض عليهم
ثقافةً غالبةً، ولسان حالهم يقول: ها نحن قد استبدلنا القديم بالحديث، والبالي
بالجديد، فنرجو منكم الرضا عنا ونعدكم بالمزيد!.
وهذا ما أراه إلا صورة عصرية للتصور القديم
المليء بالوداعة والمسكنة.
وهو ذو ضرر متعدٍ كما أرى؛ لأنه يعطي تصوراً خاطئاً
وسائداً في الذهن ومقصياً للحقائق الأخرى، فضلاً عن أن الكثير منهم يصيح منادياً
جاهراً بالتنكب للماضي بأكمله (حيث أنه لم يحسن تصوره، أو ربما قد أدركه لكنه لم
يعجبه لأنه يفتقد في نظره للعصرية).
وفريقٌ قد قلناه ممن تحرج من هذه اللفظة فابتدع
وابتذل ما لا ينبغي، فعصد وعجن وصنع خليطاً جديداً، لعله في أحسن الأمور المتفائلة
يكون خيراً من التصور السابق القديم، ولكنه حلٌ غير كافٍ ولا يسد أدنى رمق.
وفريقٌ قد آثر الانطواء على عشيرته وإبراز
تراثها وتاريخها، وهذا أراه خيرٌ من سابقه، إلا أنه لا يخدم تنمية المعرفة وتعزيز
الانتماء في الهوية التهامية بشكلها العام، وإن عُمم –ولا بأس- لكنه سيكون خالقاً
لمعضلة أشبه بمعضلة "أمريكا الأنجلوساكسونية" المعاصرة، وحينها نحتاج علاجاً
آخر! اللهم إلا إن كانت خطوة في طور الكمال فعلها قد تكون خيرَ ما اختلقه العاملون
في هذا المجال.
الخلاصة والحلول:
بعد أن شخّصت الداء –بزعمي- أرى أن من الحلول
النظرية التي أؤمن بها، وتتناسب مع الحال والواقع، ما يلي:
1- عطفاً على الإيمان بأن الحضارة عجلة مستمرة،
وأن منطقتنا كما أسلفت هي من أكبر الأقاليم التي تمثل الامتزاج الثقافي، بمعنى: أن
الامتزاج الثقافي لن يتوقف ولو كان يتحرك ببطء؛ فإنه يجب التأكيد على التنوع
الموجود منذ القدم والذي ذكرنا جوهره، ويجب إبراز جميع ما يتعلق بفرعيات وكليات
الثقافة التهامية، وتقسيمها تقسيماً ظاهراً كما هو في واقعه الحالي أو في الماضي
القريب الذي لا يزال يتذكره الكبار والأجيال المتبقية من القدامى، وقد كتبنا في
ذلك كتاباً منشوراً إلكترونياً، أسميناه بـ"هوية وثقافة قبائل بني مروان
وتهامة" وفيه تفصيل عن نظريتنا هذه.
2-أن يقوم المؤرخون والباحثون والكتاب بإبراز
دور القبائل القاطنة في هذا الإقليم فيما مضى، بعد أن كان الكلام كله كما نرى
ونعرف محصوراً في مراكز الإمارات والحواضر.
ومن أساليب إبراز هذا الدور المأثور، إقامة
الندوات في هذا الجانب، وتأليف الكتب، وكتابة المقالات والمدونات فيما يخص هذا
الموضوع، والعناية بمأثورات القبائل من أشعار وأعراف وتقاليد قبل أن تندثر بالكلية
باندثار آخر الأجيال المتبقية التي عاصرت تلك الحقب.
3-أن يقوم أبناء القبائل بأنفسهم ويعطوا انفتاحاً
وتقبلاً للباحثين؛ مساعدةً لهم ودعماً في تعزيز الهويات والانتماء، وهذا الدور لا
يتم بدون التوعية التي يجب أن يقوم بها المختصون في هذه المجالات.
هذا والله أعلم وللكلام بقية إن كتب الله لنا
عمراً ووقتاً إن شاء الله.
وهذا رابط المقال في إحدى المدونات لمن رغب في
نشره مجرداً، كما أنها "بروباغندا" نافعة لزيارة المدونة المفيدة القائم
عليها من نعرف علمهم واهتمامهم، والله أعلم بحالنا وحالهم.
يحيى المرواني-1442هــ
تعليقات
إرسال تعليق