من المساجلات الشعرية في تهامة : مجاراة بين شاعر من البادية وشاعر من الحاضرة

 
بين محمد ابن مشعفل العواجي المرواني و محمد بن زيد الشريف


الشعر في تهامة له لون خاص ورونق بهيّ ، وهو امتداد للشعر العربي العظيم من لغة العرب القدماء – مع أنه كغيره قد دخلت فيه العامية والنبطية - ، ودائما ما يكون من صلب الثقافة التهامية العريقة : فتهو يتكلم عن الماضي ، وعن الحاضر ، وعن الدين ، وعن الرجال ومكارمهم ومدائحهم ، وأيضاً عن مساوئهم ومذامهم ، ويتكلم عن القبيلة وعن الاعتزاز بها وعن حروبها وعن أحوالها :
فهو حاضر في أفراح التهاميين ، وفي أحزانهم كذلك ، ومما قد تشتعل به حروباً ضارية تدوم لأزمان ، ومما قد تألتف به قلوب متشاحنة وينطفئ ما بينها من العدوان .
فهو إذن : إعلام أهل تهامة في العصور القديمة كما هو إعلام العرب في كافة ديارهم منذ الأزل .
ومن نماذج الشعر التهامي : مجاراةٌ حصلت بين شاعرين من شعراء تهامة يمثلان ثقافتين مختلفتين – نسبياً – ثقافة الأول هي ثقافة بدوية أخذت من طبع البادية وصعوبتها وقلة المعيشة فيها ، وثقافة الآخر هي ثقافة حضرية اغتنمت من الاستقرار الحضاري فعاشت معيشة ميسرة – وإن كانت لا تبعد كثيراً عن معيشة البادية في ذلك الزمان ، إلا أنها في كل الأحوال أكثر استقراراً ومكسباً منها - . ويتناول الشاعران في هذه المجاراة معيشة كل منهما بالسخرية من الآخر ، ولا يعني وجود هذه المساجلات وجود تعصب مؤصل بالضرورة ، وإنما هو في أكثره ممازحة لطيفة ومداعبة بين شاعرين بليغين .
فيسخر البدوي ويهزأ من معيشة الحضري المستقرة والمبتعدة عن المصاعب ، ويسخر الحضري ويهزأ من معيشة البدوي الشاقة والصعبة والتي لا تمكنه من الاغتنام من الحياة والاستفادة من محاسنها وجمالها التي تظهر في ظروف الحضارة .
نتناول في هذا المقال مساجلة جرت بين شاعر من بني مروان يمثل الشاعر البدوي وهو الشاعر : محمد عسيري المشعفل العواجي المرواني ( و "عسيري" هو اسم والده ؛ حيث ينتشر الاسم بين أبناء تهامة ويراد منه الدلالة على عسر الشخص وإباءه وما إلى ذلك وأيضا تسمية له على قبيلة عسير العكية العدنانية المشهورة حيث كانت القبائل تسمي ببعضها ، وليس للاسم علاقة أبداً بقبيلة عسير العريقة ) ، وشاعر من أبناء مدينة حرض يمثل الشاعر الحضري وهو محمد بن زيد الشريف .
ويجب ملاحظة استخدام الشعراء لـ " ام " التهامية بدلا من " أل " التعريف في أماكن كثيرة من البيتين .


يبدأ محمد مشعفل المرواني أبياته قائلا:

يا بريدي قوم مردوم السنامي
لا تخالف أي جابة من كلامي
سير من وادي ليه
ويوم تصل رحبان علم بالحقائق
عند ابن الزيد الشريف
وقلهم عاني إلى أهل المدينة

فرد محمد بن زيد الشريف قائلا:

يا رسولي قوم بلغ لي امتهامي
أهل مزَّاق امحجز وأهل امثمامي
امجيد يسوى رُبِّية
حرمته في امبيت تقول رجال حاذق
يلبس الثوب النظيف
وسرحته لمسوق إذا امحرمة حسينة

فرد عليه محمد مشعفل المرواني قائلا:

صاحب الميزان ما يعرف يرامي
مجلسه امدكان من عامٍ لعامي
من منبره لمشبرية
ما كسب رجله ولا ضوى وسايق
اللي في عقله خفيف
يعجبك في امعيد حين يخرج بزينة

وسنشرح إن شاء الله معاني هذه الأبيات والمراد منها :حيث كما قلنا لكم في البداية هي مجاراة أو مهاجاة بين شاعر يمثل البادية ويهزأ من عيشة الحاضرة وشاعر عكسه في ذلك ؛ ولهذه المقدمة أثر في فهم الأبيات .

يقول ابن مشعفل المرواني:

يا بريدي قوم مردوم السنامي


"يا بريدي ": البريد يشمل: الرسول (وهو الشخص الحامل للرسالة) والمرسول (وهي الرسالة ذاتها) وهنا يعني الرسول؛ لأنه يحثه بعدها على القيام بقوله "قوم" وهو نطق عامي من فعل الأمر " قم ".
"مردوم السنام" كناية عن قوة الجمل الذي ينبغي أن يحمل هذه الرسالة و مردوم السنام عند أهل البادية هو الجمل الذي بلغ أشده ، وهي كلمة عامية تظهر في أقاليم بوادي تهامة و نجد وغيرها ، ولم نجد لها أصلاً فصيحاً .
والمراد من هذا الشطر : يا رسولي قم وامتط أعظم الجمال لعظم المحمول معك والمرسول.


لا تخالف أي جابة من كلامي


أي: لا تتوانى في أي كلمة من رسالتي هذه ، ويقصد بها أبياته .
ومعنى جابة في لغة أهل تهامة هو : كلمة . وهي منحوتة من "إجابة".

سير من وادي لِيَه

أي: انطلق من وادي لِيَه .
وهو وادٍ كبير يقع في منطقة جازان حاليا ويمر بمناطق قبيلة الحرث وغيرها ويمر قبل ذلك من بعض بلاد بني مروان ، ومنشأه من جبال صعدة.


ويوم تصل رحبان علم بالحقائق


أي: وحينما تسير أيها المرسول من وادي لِيَه فتصل في طريقك إلى وادي رحبان ، وهو الوادي العظيم الذي يسقي معظم قبائل بني مروان ويسمى بوادي حرض ووادي ابن عبدالله نسبة إلى بطن عبد الله بن عك بن عدنان الذي ترجع إليه قبيلة بني مروان.
"علم بالحقائق": استئناف لتحريضه بإيصال رسالته.

عند ابن الزيد الشريف


أي: عند الشاعر الذي يريد العواجي أن يوصل إليه الكلام وهو الشاعر محمد بن زيد الشريف .


وقلهم عاني إلى أهل المدينة


أي : أخبر أهل مدينة حرض أن كلامي هذا يعنيكم تحديداً ( ويقصد سكان مدينة حرض من الأشراف جماعة الشاعر محمد بن زيد؛ حيث أنه في ذلك الزمان كانت الأسر الهاشمية تسكن في مدينة حرض قبل أن تستقر فيها بعض القبائل المروانية وتكثر فيها)، وأبياتي هذه تسخر من معيشة أهل المدن.


ويرد ابن زيد الشريف قائلا:

يا رسولي قوم بلغ لي امتهامي

أي: يا من ستقوم بتبليغ رسالتي أخبر لي التهامي ويقصد البدوي، فقد كان أهل المدن وغيرهم في تهامة يسمون سكان البادية بـ"امتهامي"، وسكان التلال بـ"امجبلي".

أهل مزاق امحجز وأهل امثمامي


أي: أهل تقطيع " امحجز" وهو الحبل القوي والغليظ الذي تربط به الأحمال على البعير وهو شبيه ب"الشمال أو الشمالة، أو الشملة" التي توضع على النوق لتغطي ضروعها، ولكنه أغلظ قليلا.
 وأهل "امثمامي" هي الأشجار التي تغطى بها البيوت التهامية، وتتميز البيوت التهامية بنوعين :-
1- العشش: وهي بيوت خفيفة مبنية من الأشجار وبعض الأخشاب وهي التي يقصدها هنا الشاعر وهذه تكون في بادية تهامة وتقابل بيوت الشعر الموجودة في نجد، مع وجود قليل للخيم في بادية تهامة وكان يقتصر على المشائخ وبعض المهمين لتكون بيوتهم مميزة عن البقية ، ومن مميزات العشش سهولة نقلها وإعادة ترميمها لو هدمت بأي سبب. وتسمى أيضا بـ"العريش" وتتواجد في تهامة بأكملها في الحواضر والبوادي، وتكون في البوادي أكثر.
ومن أسمائها وأنواعها: العشة والخدروش والعريش والسهوة.
2- المدامك ومفردها مدمك: وهي بيوت طينية تحمل شكلاً جميلا ومميزاً وتكون أوسع من العشة، وتكثر في حواضر تهامة لأنه لا يتم نقلها بل هي مستقرة في مكانها ، وتتواجد في البوادي التهامية ذوات المنتجع "النجوع" الطويل والشبه مستقر.
ويقصد الشاعر بأبياته السخرية من أبناء البادية بكثرة ترحلهم وراء المرعى.

وهذه صور توضيحية للمفردات الموجودة في هذا الشطر:


1- امحجز الذي يوضع على الإبل.




2- وهذا هو الشداد الذي يوضع على الحجز لحمل الأمتعة.



العشة والمدمك : والعشة هي الأسطوانية الشكل ، والمدمك هو المستطيل الشكل .


امجيد يسوى رُبِّية

أي: "الجِيدْ" وهو الجيِّد والأفضل من أهل البوادي (من وجهة نظر الشاعر ابن زيد الشريف وهو يتهكم هنا) يسوى "رُبِّية" وهي عملة قديمة تعتبر الأرخص ثمناً.
ومعنى هذا الشطر هو استهزاء بخصمه، أي: إن الجيد والحسن من أهل تهامة لا يساوي إلا هذه العملة الرخيصة الثمن.


حرمته في امبيت تقول رجال حاذق


أي: زوجته في بيتهم كأنها رجل من شدتها وقلة جمالها وعدم تنعمها وتزينها كنساء الحاضرة؛ لصعوبة حياتها.


يلبس الثوب النظيف
وسرحته لمسوق إذا امحرمة حسينة


أي: لا يلبس الثوب الجديد والنظيف ويذهب إلى أسواق المدن إلا إذا كانت الزوجة جميلة، وهو تندر بقلة جمال نساء أهل البادية من وجهة نظر ابن زيد.


فيرد ابن مشعفل المرواني قائلاً:

صاحب الميزان ما يعرف يرامي
( ووردت في رواية أخرى " لابتي امكسار ما يعرف يرامي ")  


أي: إن صاحب الميزان الذي يوزن به الحبوب والخضروات وغيرها في السوق لا يجيد الرمي بالسلاح؛ لانشغاله بهذه المهنة.
وبالرواية الثانية: " لابتي" أي: يا قومي وجماعتي.
" امكسار" وهو التاجر الدائم المكوث في سوقه.


مجلسه امدكان من عامٍ لعامي


أي: إن التاجر وصاحب الدكاكين لا يخرج من دكانه وسوقه أبداً طوال الأعوام.


من منبره لمشبرية


أي: غاية تنقل هذا التاجر المستقر من "منبره" (وهو الكرسي الذي يجلس عليه أثناء مكوثه في دكان وغالبا كان في ذلك الزمان مصنوع من حبال الخيزران أو ما يسمى في تهامة بـ "امطفي") إلى "شبريته" (وهي كرسي أكبر من المنبر قليلاً أصغر بقليل مما مايعرف اليوم بـ " القعادة ").


وهذه صور توضيحية :


1- المنبر


2- الشبرية


ما كسب رجله ولا ضوى وسايق


أي: ما كسب برجله وبسعيه في المغازي والغارات والتي كانت من أساليب العيش لدى أبناء بادية تهامة في ذلك الوقت الذي عم وطم فيه الجهل والفقر، ولعله أيضا يقصد " ما كسب رُجلة " أي: رجولة.
 "ضوى": غزا وجمع الغنائم، "سايق" ساق الغنائم آيباً إلى محله.

ويجب أن نشير هنا إلى عظم وحرمة هذا الفعل الذي كان منتشرا في ذلك الزمان لانتشار الجهل والفقر مثلما قلنا، وفيه من التعدي على أموال ودماء المسلمين ما لا يرضاه الدين القويم.

اللي في عقله خفيف
يعجبك في امعيد حين يخرج بزينة

يقصد أنه ما قعد في مكانه (حسب نظر ابن مشعفل) إلا لقلة عقله، ثم يسخر منه قائلاً: "يعجبك في العيد حين يخرج بزينة ": وهو تهكم على أن التاجر الحضري مثل ابن زيد الشريف يلبث في مكانه طوال العام ولا يخرج إلا للعيد بزينة توحي بتنعمه.


انتهى مقالنا هذا بحمد الله ونذكر دائما أننا ما نورد مثل هذا القصص والقصائد إلا لتقريب وتوضيح التراث التهامي ومجرياته لدى الأجيال الجديدة ولدى من يهمتون بثقافة تهامة سواء من أهلها أو من غيرهم.
ولا يعني أننا نؤيد أو نوافق ما ننقله سواء في المعارك القبيلة أو في المهاجات بين الشعراء.


 وانتظروا المزيد من التراث التهامي بمشيئة الله عز وجل.


ندعوكم لمطالعة:


قبيلة بني مروان وأقسامها وشيء من تاريخها 👇

من تاريخ شعراء تهامة : علي بن صديق ابن عطيف المسرحي وفرسه المقتولة 👇

ميدي : الميناء الكريم 👇











تعليقات

  1. شكراً للعمل الجبار الذي تقوم به بهذا الشأن شكراً من الاعماق تمنيت ان ابحث في تاريخي المطموس وفي هويتي منذ ولادتي اردت معرفة لماذا نحن شيع متفرقين هل يعقل ان لجميع القبائل ارث عظيم ونحن لاوجود لنا واليوم أنا افخر بأني من فخذ بني سرين العواجي المرواني استمر واتمنى ان اقبل رأسك على ماتقدم

    ردحذف
    الردود
    1. أهلا وسهلاً حياك الله يا أستاذ ، ونحن بدورنا ممتنون لك على هذه المشاركة الطيبة كطيب أصلك ، ونفخر بك وبكل مرواني من كافة الأفخاذ وبكل تهامي .

      شرفتنا ونفتخر ببني العواجي العظماء الذين هم جزء لا يتجزأ من بني مروان وركن عظيم تستند عليهم بني مروان .

      وبنو مروان مهما غابوا بسبب تفرقهم بين دولتين ، وبسبب ظروف الحياة وتوزعهم وراء معيشتهم ، إلا أنهم ما زالوا يفخرون بقبيلتهم ويرفعون رؤوسهم اعتزازاً بها .

      وسيرجع مجدهم واتحادهم بإذن الله تعالى وعونه .

      حذف
  2. الردود
    1. العفو أخي الكريم .. وننتظر تفاعلكم دائما .

      حذف
  3. قمت بإرسال الوثيقة عبر ايميلكم المرفق ولكم الشكر

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة